بعد مرور عامين على تعهدات رسمية بوقف الإخلاء في حيّ ميناء العريش، عادت الجرافات لتستأنف الهدم وسط حراسة أمنية مشددة، في مشهد يعيد إلى الأذهان نمط التهجير القسري الذي طالما ارتبط بمشاريع التنمية في مصر. وعلى الرغم من التفاهمات التي تم التوصل إليها عام 2022، والتي نصّت على عدم إخلاء أي منزل دون توفير بديل مناسب، فإن ما يجري اليوم ينسف هذه التفاهمات من جذورها.
“الاتفاق المعلّق”: كيف بدأت الأزمة؟
بدأت ملامح الأزمة عام 2019، عندما صدر قرار جمهوري بتخصيص الأراضي المحيطة بميناء العريش لصالح القوات المسلحة، ضمن خطة تطويرية تشمل نحو 371 فدانًا. وفي أكتوبر 2021، اتسعت المساحة إلى 541 فدانًا، ما وضع عشرات الأحياء السكنية، بما فيها الريسة وحي الميناء وشاليهات السعد، داخل نطاق المشروع.
لم تمر تلك القرارات مرور الكرام، إذ عبّر سكان المنطقة عن رفضهم عبر وقفات احتجاجية ولقاءات مع مسؤولين، كان أبرزها لقاء جمع وزير النقل كامل الوزير بأهالي الحي عام 2022، أعلن فيه الوزير رسميًا التزامه بعدم الإخلاء دون توفير بدائل “مماثلة أو أفضل”. تم تشكيل لجنة لفض النزاعات، وعلّق تنفيذ الإخلاءات مؤقتًا.
وتوقفت أعمال الإزالة في يوليو 2023 عقب تصاعد الغضب الشعبي ما دفع عبد الفتاح السيسي لتكليف وزير النقل كامل الوزير بلقاء ممثلين عن الأهالي في أكتوبر من العام ذاته، حيث تعهد بعدم تنفيذ أي إزالة دون اتفاق يرضي السكان.

عودة الهدم: وعود تلاشت على وقع الجرافات
في يوليو 2025 عادت الجرافات إلى حي الريسة وشاليهات السعد، وسط تطويق أمني كامل. الأهالي الذين ظلوا متمسكين بمنازلهم استنادًا إلى الوعود الرسمية، فوجئوا بمداهمات مفاجئة، وأوامر إخلاء فورية، دون تقديم بدائل حقيقية أو تعويضات عادلة.
تؤكد شهادات محلية أن عمليات الهدم تمت بشكل قسري، دون السماح للسكان حتى بإخراج متعلقاتهم الشخصية. يُشير ذلك إلى غياب الحد الأدنى من الإجراءات الإنسانية، وتحول الإخلاء إلى ما يشبه العقوبة الجماعية بدلًا من كونه خطوة تخطيطية تحت غطاء التطوير.
صور الأقمار الصناعية تكشف حجم التهجير
أجرى فريق “تقصي” مقارنة تحليلية لصور الأقمار الصناعية عبر منصة Google Earth لعدة مناطق في العريش:
- في منطقة الريسة: تُظهر صور عام 2022 انتشارًا كثيفًا للمباني السكنية. أما في عام 2024، فباتت المنطقة أرضًا خالية. وفي صور عام 2025، رُصدت معدات بناء وكتل هندسية مربعة لم تُعرف وظيفتها بعد.



في شاليهات السعد: التحليل الزمني للصور يكشف تحول المنطقة من تجمع عمراني عامر في 2022 إلى أرض فارغة في 2023، ثم إلى موقع بناء في 2025. بعض الصور تشير إلى استخدام خيام أو “هناغر” مؤقتة كمساكن إيواء، ما يثير تساؤلات حول حجم الضرر الاجتماعي والاقتصادي الذي طال السكان.





هذه المعطيات البصرية دعمتها مشاهد ميدانية وثّقها الأهالي بهواتفهم، تُظهر حجم الدمار ومعاناة السكان أثناء طردهم من منازلهم.





أدوار المسؤولين: الغندور في قلب الاتهام
حمّل الأهالي سكرتير عام محافظة شمال سيناء، أسامة الغندور، مسؤولية مباشرة عن الإزالات. وبحسب شهادات محلية، يقود الغندور عمليات الهدم ميدانيًا متجاهلًا أي اعتبارات اجتماعية، وصرّح علنًا أن “الأراضي تعود ملكيتها للمحافظة”، وهو ما يُنظر إليه كتبرير لإضفاء شرعية زائفة على عمليات الإخلاء، رغم افتقارها للعدالة والشفافية.



ختام:غياب البديل واستمرار المعاناة
حتى اللحظة، لم تعلن الجهات الرسمية عن أي خطط بديلة واضحة أو إطار تعويضي منصف للسكان المتضررين. بل إن وتيرة الهدم تتسارع، والمناطق السكنية تُمحى، بينما تُشيّد منشآت مجهولة على أنقاضها. لا تزال الأسئلة الجوهرية معلقة: ما طبيعة المشاريع الجديدة؟ وما مصير آلاف السكان الذين فقدوا منازلهم دون إنذار أو تعويض عادل؟
تكشف مأساة حي ميناء العريش عن نمط مقلق من التنمية القسرية، حيث تُنفّذ المشاريع الكبرى على حساب الحقوق الأساسية للمواطنين، دون أدنى التزام بالشفافية أو الإنصاف. ورغم الصور والشهادات والوثائق، لا تزال الدولة تتعامل مع السكان بوصفهم عقبة أمام الخطط، لا شركاء في صنع المستقبل.