النوبة بين التهميش والاضطهاد: أزمة متفاقمة في ظل سياسات الإقصاء المصرية

ليست أزمة النوبة مع الدولة المصرية وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من التهميش والتجاهل. فقد عانت النوبة لعقود من سياسات إقصائية تعاملت معها كمنطقة هامشية، فتم تغييب تاريخها، وإضعاف هويتها الثقافية، وحرمان سكانها من حقوقهم، وفي مقدمتها حق العودة إلى أراضيهم الأصلية التي هُجّروا منها قسرًا بعد بناء السد العالي.

ورغم تعاقب الأنظمة الحاكمة، ظل التهميش هو السمة الغالبة في تعامل الدولة مع النوبيين. إلا أن الوضع ازداد سوءًا في عهد عبد الفتاح السيسي، حيث تصاعدت القيود على النشاط النوبي، وتم اعتقال النشطاء وتشويه مطالبهم، وسط تجاهل لمواد الدستور التي تضمن خصوصية النوبة وحقوق سكانها.

مطالب قديمة وأزمة مستمرة

يطالب النوبيون بحقهم في العودة إلى أراضيهم الأصلية، لا سيما منطقتي “توشكى” و”خورقندي” اللتين أدرجتهما الدولة ضمن مشروع “المليون ونصف المليون فدان” للاستثمار. وقد أثار هذا القرار موجة من الغضب النوبي، إذ رأوا فيه اعتداءً على حقوقهم التاريخية، مما عمّق أزمة الثقة مع الحكومة.


لم تقتصر آثار التهجير القسري على فقدان الأرض، بل طالت النسيج الاجتماعي والاقتصادي للنوبيين، إذ أُسكنوا في مناطق تفتقر لأدنى مقومات الحياة، وتجاهلت الحكومات المتعاقبة وعودها بإعادة التوطين وتحقيق تنمية حقيقية. وعلى الرغم من أن المادة 236 من دستور 2014 تنص على عودة النوبيين وتنمية مناطقهم خلال عشر سنوات، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك. فقد صدرت قرارات رئاسية صنّفت أراضي نوبية كمناطق عسكرية أو ضمّتها لمشروعات تنموية، ما حال دون عودة السكان الأصليين إليها.

احتجاجات وتضييق أمني

بسبب ذلك، تأججت احتجاجات واسعة اندلعت في أسوان بعد طرح أراضي توشكى وخورقندي للاستثمار، ما دفع النوبيين لتنظيم “قافلة العودة النوبية”، التي شاركت فيها عشرات القرى، غير أن قوات الأمن أوقفت القافلة بالقوة، وفرضت حصارًا على المعتصمين ومنعت عنهم الطعام والماء، وسط استخدام الأعيرة النارية لترويعهم، رغم حرص المحتجين على السلمية.

ورغم محاولات الدولة تهدئة الأوضاع بفتح قنوات حوار مع ممثلي النوبة بعد ذلك، ظل انعدام الثقة سيد الموقف نتيجة لتراكم وعود لم تُنفذ. وتصاعد الغضب مع استمرار التجاهل، مما دفع النوبيين في القاهرة للإعلان عن اعتصام مفتوح، وامتدت التحركات الاحتجاجية إلى حدّ قطع السكك الحديدية.

بلغت الأزمة ذروتها في سبتمبر 2017 حين اعتُقل العشرات من النوبيين خلال مظاهرة سلمية بأسوان طالبت بتفعيل المادة 236 من الدستور. وتم احتجازهم في ظروف قاسية، حيث توفي أحدهم نتيجة الإهمال الطبي، فيما استمرت محاكمة آخرين أمام محاكم أمن الدولة. كما اعتُقل نشطاء آخرون خلال العامين 2016 و2017، في ممارسات وصفتها منظمات حقوقية دولية بالتمييزية والعنصرية.

وأشار منير بشير، رئيس رابطة المحامين النوبيين، إلى أن أحد أسباب تعقيد الأزمة هو انسداد المسارات القانونية والسياسية. فالدولة تتعامل أمنيًا مع أي تحرك نوبي، مما عمّق الإحباط بين الشباب، ودفع البعض للحديث عن تشكيل حركات مقاومة، مثل “كتالة”، كوسيلة للدفاع عن الحقوق المغتصبة، ما يعكس الشعور المتنامي باليأس من جدوى السلمية.

النوبيون في الخارج.. التهميش يمتد

لم تقتصر الملاحقة داخل مصر، بل طالت النوبيين في الخارج أيضًا. ففي أكتوبر 2019، اعتقلت السلطات السعودية عشرة مصريين نوبيين بعد تنظيمهم فعالية ثقافية بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر، اتُّهموا فيها بعدم رفع صورة السيسي رغم تعليق صور شخصيات نوبية وطنية!

ورغم أن الفعالية كانت اجتماعية وثقافية الطابع، أُخضعوا لتحقيقات طويلة دون توجيه اتهامات مباشرة. وفي يوليو 2020، أعيد اعتقالهم، ووجهت إليهم تهم جديدة، من بينها إنشاء جمعية غير مرخصة والنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي، وحُكم عليهم بالسجن بين 10 و18 سنة، في محاكمة صدمت المجتمع النوبي داخل مصر وخارجها. ورغم استغاثات أهاليهم، لم تتدخل الحكومة المصرية أو وزارة الخارجية، ما عزز شعور النوبيين بأن الدولة تتخلى عنهم حتى في الدول الحليفة.

على مدار أكثر من ست سنوات، أطلق أهالي المعتقلين نداءات استغاثة متكررة إلى الحكومة المصرية، مطالبين بالتدخل لإنهاء هذه المعاناة، كما التقوا بشخصيات بارزة، من بينها شيخ الأزهر الذي أبدى تعاطفه مع قضيتهم. لكن كل تلك الجهود لم تجد صدى رسميًا، في ظل غياب تام لأي موقف واضح من الجهات المعنية، ما عزز شعور هؤلاء المواطنين بأنهم باتوا فعليًا بلا دولة تحميهم، حتى في وجه انتهاكات تقع في دول حليفة، لأسباب لا تستدعي أي شكل من أشكال العقاب أصلًا.

ما يتعرض له النوبيون اليوم لا يمكن اختزاله في مجرد احتجاجات على قطعة أرض، بل هو أزمة هوية ممتدة، ترتبط بالحق في الوجود والاعتراف والعدالة. وفي ظل غياب سياسة جادة تعالج هذا الملف الحساس، تتصاعد المخاوف من أن يتحول الإحباط المتراكم إلى غضب منظم. وإذا لم تتحرك الدولة لتبني سياسات تصالحية، فإنها تخاطر بتوسيع الشرخ، ليس فقط في الجنوب، بل في النسيج الوطني بأكمله.

أزمة أهالي النوبة ..حقوق مسلوبة أم قضية سيادة

المصادر

Saudi Arabia: Egyptian Nubian men face prison sentence for organizing event
نذكركم حتى لا ننسى.. 10 مواطنين مصريين نوبيين معتقلين في السعودية منذ 6 سنوات.
Saudi Arabia: 10 Egyptian Nubians Held Unjustly
نوبيو مصر ومطالب بإعادة التوطين والاعتراف بالتاريخ واللغة
أزمة أهالي النوبة ..حقوق مسلوبة أم قضية سيادة
It is a disgrace that the marginalisation of Nubian Egyptians is ongoing


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *