أثارت مقاطع فيديو متداولة بتاريخ 25 يوليو2025 جدلاً واسعًا في مصر والعالم العربي، حيث ظهر فيها شبّان (محسن مصطفى وابن خاله أحمد عبد الوهاب) يزعمون اقتحام مقر الأمن الوطني (أمن الدولة) في قسم شرطة المعصرة بحلوان (جنوب القاهرة)، واحتجاز ضباط بداخله، وذلك احتجاجًا على إغلاق معبر رفح والأحداث الجارية في غزة.
تباينت الروايات حول صحة الفيديو وملابسات الحادثة: فبينما أكّد الشابان في المقطع أن عمليتهم رمزية وسلمية نصرةً لغزة، نفت وزارة الداخلية المصرية وقوع الاقتحام تمامًا ووصفت الفيديو بأنه “مفبرك”.
في هذا التقرير التفصيلي، نحلّل المشاهد بصريًا، ونراجع سردية منفّذي الفيديو، كما نتابع التسلسل الزمني لانتشار المقاطع والتفاعل الرقمي حولها، مع رصد ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية. أخيرًا، نستعرض السيناريوهات المحتملة بشأن حقيقة الفيديو: هل يوثق حدثًا حقيقيًا؟ أم مجرد فبركة أو خدعة بصرية؟
أولاً: الأدلة البصرية:
المواد المصورة تضم 3 فيديوهات من داخل القسم، 2 فيديو لاحقين لحديث الشباب قبل العملية وتسجيل صوتي، بالإضافة إلى نشر عدد من المستندات من بينها أوراق وقوائم بأسماء مواطنين، وبطاقات/كروت المتابعة لشخصيات يراقبها الأمن الوطني.




ثانياً: التحليل البصري للمقاطع المتداولة
موقع التصوير وتطابقه مع المبنى المستهدف:
من خلال تفحّص الفيديوهات، يظهر أنها صُوّرت داخل مبنى قسم شرطة المعصرة بحلوان (وفق ادعاء الشابين). يظهر في أحد المقاطع ممرّ وغرفة ذات باب حديدي يتحدث من خلفه شخص يُفترض أنه ضابط أمن وطني محتجز، بينما يقف أمامه أحد الشبان المتواجدين في المكان.
قمنا بمقارنة هذه المشاهد مع صور منشورة لمقر الأمن الوطني في قسم المعصرة أو القسم نفسه، وقد وصلنا بالفعل للتطابق، حيث أن الصورة الشهيرة للشاب محسن وهو في حديث مع الظابط من خلف الباب، تظهر الصور وجود خطين على جدران الحائط باللون البني، وهو ما يتطابق مع صورة من داخل القسم كانت قد نشرتها جريدة مصراوي في 2015


ووفق شهادات معتقلين سابقين، هناك طابق علوي (رابع) مخصّص لضباط الأمن الوطني داخل القسم، حيث يطلب من المفرَج عنهم أمنيًا التردد شهريًا للتوقيع والمتابعة. هذه الإجراءات الروتينية سمحت – على ما يبدو – بدخول المدنيين بسهولة نسبية إلى ذلك الطابق لمقابلة ضباط الأمن، مما يفسّر كيف تمكن الشبان من الوصول إلى الموقع الذي ظهر في الفيديو.
ما يؤكد هذا ايضا، أحد الأوراق المسربة في الفيديو تحمل البيانات التالية، رقم القضية 484 لسنة 2020 المتهم “محسن محمد مصطفى أحمد” الانضمام لجماعة إرهابية، وهو دليل ثاني يوضح كيفية دخول الشباب للقسم بسهولة، ويتمثل الدليل في المتابعة الدورية للقسم، بالروتين المعمول به من قبل جهات الأمن الوطني مع المعتقلين المصنيف على مثل هذه القضايا

باشرت وزارة الداخلية المصرية سريعًا بنفي صحة الفيديو، وصرّحت أن المقطع “مفبرك” ولا يمت للواقع بصلة. وأشارت إلى ضبط القائمين على إعداد وترويج الفيديو وما تضمنه من وثائق.
لكن فحص المحتوى طرح أدلة تدحض فرضية أن اللقطات قديمة أو معاد استخدامها من أحداث سابقة: فعلى سبيل المثال، تضمّن الفيديو إشارات صريحة لأحداث راهنة مثل حصار غزة وتجويع أهلها، وهو سياق مرتبط بشهر يوليو 2025 تحديدًا حيث كانت أزمة الغذاء في غزة تتصدر الأخبار. كذلك، عُرضت وثائق بتاريخ حديث (قبل يومين من الحادثة) خلال الفيديو، تشمل ملفات موقوفين بتهمة دعم غزة، مما يؤكد حداثة المحتوى. كل ذلك يجعل احتمال كون المقاطع مجرد إعادة تدوير لمشاهد قديمة ضعيفًا جدًا.
أما بشأن فبركة المقاطع بالكامل داخل استوديو، فلا يوجد ما يثبتها بصريًا، خاصة مع تعرّف شخصيات حقيقية (تم الإعلان عن أسمائها لاحقًا) تظهر بوجوهها الحقيقية في الفيديو.
حاول بعض الأفراد الموالين للنظام تكذيب الفيديو، عبر الذهاب الى استحالة استمرار مدة الاقتحام لما يزيد عن 5 ساعات داخل القسم وهو ما صرح به أحد الشباب في الفيديوهات، ولكن الأدلة البصرية أجابت عن هذا الدعاء، حيث أن المرجح هو تواجد الشابان داخل المكتب واغلاقه من الداخل مع الجنديان الظاهرين في الفيديو، وتواجد الضباط من خارج المكتب، مع عدم إقدام رئيس المكتب على إخطار الجهاز، ما كان سيؤدي لعقوبات عليه، لذا حاول الضابط احتواء الموقف بسرعة، ولذا كانت الكلمات من خلف الباب بمضمون افتح وليس خرجنا (نقصد حديث الضابط)، الادلة البصرية كانت الإرشادات الزرقاء في مقابل الباب الحديد، وهي دليل على إن الضابط كان خارج المكتب والشبان من الداخل


خلاصة القسم البصري: المشاهد المصوّرة تتلاءم إجمالاً مع رواية حدوث اقتحام خاطف داخل قسم المعصرة، ولم يتم العثور على أدلة مرئية قاطعة على استخدام الخدع التقنية في التصوير. وعليه، من المنظور البصري البحت القرائن الظاهرة تؤكد واقعية الحدث مع احتمال وجود بعض التهويل في سرد تفاصيله.
ثانيًا: تحليل سرديّة الشباب في الفيديو
مضمون رسائل منفّذي الاقتحام: يظهر في المقاطع شابان مصريان يعرّفان نفسيهما بأنهما من نفّذا “عملية الاقتحام” ضمن “عملية الحديد 17”. تحدثا بحماس وانفعال، موجّهَين رسائل احتجاج واضحة. أبرز ما في سرديتهما هو تأكيد الطابع السلمي وغير الدموي لخطوتهم: شددا مرارًا على أن أدواتهم غير قاتلة وأنهم “ليسوا إرهابيين” ولا ينوون إراقة الدماء.
في أحد المقاطع التي نُشرت بعد انتشار الفيديو الأول، ظهر أحد الشابين مصابًا بجروح في رأسه وملابسه ممزقة – ما يدل على اشتباك بالأيدي حدث خلال احتجاز الضباط – وهو يقول مخاطبًا الكاميرا: “دخلنا مكتب الأمن الوطني ومعنا مسدس صوت فارغ فقط… لو أردنا قتل أحد لفعلنا، لكن هدفنا إيصال رسالة”.
كذلك أعلن المنفذون في تسجيل صوتي أصدروه عبر تليجرام عقب العملية أنهم لا يتبعون أي حزب أو تنظيم، بل هم “أبناء الشعب… أحفاد عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص”، وأن غايتهم “إحياء موات الشعب المصري الكريم ووقف الإبادة عن أهلنا في غزة”. أي أنهم يقدمون أنفسهم كوطنيين غيورين يتحركون بدافع الغضب لما يجري في غزة ورغبة في إيقاظ ضمير الشعب.
الاحتجاج على أحداث غزة وإغلاق رفح: مظلمة غزة كانت المحور الرئيسي للرواية. فقد كرر الشابان استنكارهما لإغلاق معبر رفح الحدودي ومنع المساعدات عن أهل غزة المحاصرين. وذكر أحدهما أن مجاعةً تهدد حياة المدنيين هناك بسبب الحصار. بل جرت في الفيديو مشادّة كلامية مع ضابط أمن وطني محتجز، حين طالبوه بفتح المعبر فردّ عليهم بكلمة “مستحيل” – في إشارة إلى أن فتح المعبر من الجانب المصري مرفوض رسميًا. يظهر الشبان في المقطع وكأنهم يحاكمون الضابط كلاميًا بتهمة “التواطؤ في إبادة الشعب الفلسطيني”. كذلك ربطوا حركتهم بحملة قمع أوسع ضد متطوعين مصريين دعموا غزة: فقد أشاروا إلى اعتقال السلطات شبابًا وفتيات مؤخراً لمجرد تنظيمهم حملات تبرع وإغاثة لصالح غزة. هذه النقطة تكررت في الوثائق التي عرضوها بعد الاقتحام، حيث ظهرت ملفات موقوفين بتهم “الانتماء للإخوان” أو “دعم غزة” في الأيام السابقة.
https://x.com/i/status/1949615390704705672
فيديو للشاب محسن مصطفى تم تصويره قبل العملية
التأكيد على عدم التهديد الفعلي: في سرديتهم، حرص الشابان على طمأنة الجميع بأن فعلتهم رمزية الطابع. أحدهم قال صراحة للضابط المحتجز: “لن نقتلك، ولا نريد إيذاء أحد، نحن نعبر عن غضبنا فقط” (بحسب ما نُقل عن الحوار الدائر في الفيديو). كما شددوا أنهم اختاروا وقت صلاة الجمعة لتنفيذ عمليتهم كي يتفادوا أي مواجهات دامية، حيث تكون الحراسة في حدها الأدنى. وبالفعل لم تُستخدم أي أسلحة نارية خلال الاقتحام – فلم يسمع إطلاق رصاص في المقاطع، ولم يشاهد المشاهدون سوى مسدس صوت استخدمه الشبان لإخافة الأمنيين دون إيقاع ضرر. هذا الاتساق بين القول والفعل (استخدام سلاح صوتي فقط) يدعم صدقية إدعائهم بعدم السعي للقتل. كذلك أظهرت المشاهد أن الضباط المحتجزين كانوا خلف باب حديدي مغلق، ولم يتعرضوا لأذى جسدي ظاهر خلال التصوير، مما يتفق مع رواية الشابين بأن هدفهما الاحتجاج السلمي وليس الانتقام الشخصي.
اتساق السردية مع المظاهر المصورة: بالنظر إلى ما يظهر في الفيديو، سلوك الشابين يدعم روايتهما: لم يعرضا عنفًا مفرطًا ولم يبدر منهما تهديد بالقتل؛ بل خاطبا الضباط بنبرة حادة نعم، لكنها تركّز على اللوم السياسي والأخلاقي (مثل “أنتم تجوّعون الناس في غزة”) أكثر من كونها تهديدًا شخصيًا مباشرًا. في أحد المقاطع اللاحقة، وبعد أن سلّم الشابان نفسيهما كما تبيّن لاحقًا،
خلاصة القسم السردي: سردية الشابين في الفيديو تركز على رسالة سياسية واضحة: اعتراض على سياسات مصر تجاه غزة، مع التأكيد على سلمية التحرك وعدم نية الإيذاء. هذه السردية متسقة عموماً مع المشاهد المصورة؛ فالأفعال (استخدام مسدس صوت، الحوار مع الضباط دون اعتداء) تطابقت مع الأقوال (لا نريد قتلكم، هذا دعم لغزة). ولم يظهر أي تناقض جوهري يطعن في صدقيتهم ضمن إطار الفيديوهات المنتشرة.
ثالثًا: التسلسل الزمني لانتشار الفيديوهات وتفاعل المنصّات
يمكن تلخيص أبرز محطات الأحداث زمنيًا كما يلي:
التاريخ/الوقت (2025) | التطور والحدث المعلن |
ظهر الجمعة 25 يوليو | (وفق رواية المنفذين) تم تنفيذ الاقتحام لمكتب الأمن الوطني في قسم المعصرة خلال توقيت صلاة الجمعة، حيث كانت الحراسة مخففة. الشابان محسن مصطفى وابن خاله أحمد عبد الوهاب قاما باحتجاز عدد من الضباط لبعض الوقت وتصوير مقاطع للتوثيق. |
عصر–مساء 25 يوليو | نشر المقطع الأول: ظهرت قناة على تطبيق تيليجرام باسم “طوفان الأمة” (نحو 50 ألف مشترك) لتنشر مقطع فيديو يوثّق لحظات الاقتحام واحتجاز الضابط. انتشر الفيديو سريعًا عبر منصات التواصل (تويتر/X، فيسبوك، تيك توك)، وحصد في الساعات الأولى آلاف المشاهدات ثم ملايين لاحقًا. بدأت موجة تفاعل شعبي مكثف مساء الجمعة على وقع الصدمة من المشهد غير المسبوق. |
ليل 25 يوليو | تداول أوسع وردود فعل أولية: المحتوى ينتشر كالنار في الهشيم على المنصات. وسوم مثل #قسم_المعصرة و**#الاقتحام_المزعوم** وغيرها تنشط في النقاشات. انقسام في الآراء بين من اعتبره “رسالة جريئة ضد النظام” تضامنًا مع غزة، ومن شكك في مصداقيته واعتبره عملًا مفبركًا أو مدبرًا من جهات معارضة في الخارج. |
ليل 25 يوليو ايضا | أول رد من الداخلية: بعد ساعات قليلة من انتشار المقطع، أصدرت وزارة الداخلية تصريحًا عبر صفحتها الرسمية ينفي صحة الواقعة. جاء التصريح على لسان “مصدر أمني” بأن الفيديو مفبرك ومنشور عبر “أبواق إعلامية تابعة لجماعة الإخوان”. كما أكد أن الوثائق المتداولة معه “لا تمت للواقع بصلة” وأنه تم ضبط المتورطين في إعدادها ونشرها. |
بعد بيان الدخلية | نشر البيان الصوتي: بالرغم من نفي الداخلية، قامت قناة “طوفان الأمة” ببث تسجيل صوتي تبنّى فيه الشابان العملية. في هذا البيان (المسجل مسبقًا على الأرجح)، أكدا أنهما نفذا الاقتحام صباح الجمعة 25 يوليو وأنه “إذا خرج الفيديو للنور فذلك يعني أنه تم القبض عليهما” – ما يوحي بتسليمهما المتوقع لأنفسهما بعد التنفيذ. التسجيل شدد على دوافعهما الوطنية والدينية كما أسلفنا. |
السبت 26 يوليو | تصاعد الجدل وتسرّب وثائق: استمرت منصات التواصل بالاشتعال؛ الوسوم المعارضة تهاجم تكذيب الداخلية وتتهمها بالإنكار المستمر، بينما موالون يروّجون وسم #الفيديو_المفبرك في الوقت نفسه، كما انتشرت مجموعة الوثائق المسرّبة من داخل مكتب الأمن الوطني بالمعصرة. الوثائق تضمّنت أسماء معتقلين ومختفين قسريًا مطلوبين أمنيًا وملفات متابعة لمفرج عنهم (مراقبة أمنية) – بعضها لأشخاص معروفين في قضايا سابقة (مثل فتحي رجب حسان في قضية كتائب حلوان). نشر هذه الوثائق أحدث ضجة كبيرة، واعتُبر دليلًا إضافيًا لدى المؤيدين على واقعية الاقتحام. |
مساء السبت 26 يوليو | تحرّك رسمي رفيع المستوى: أعلن المتحدث باسم الرئاسة المصرية صباحًا عن اجتماع عاجل بين عبد الفتاح السيسي ووزير الداخلية محمود توفيق “لمناقشة مستجدات الأوضاع الأمنية”. لم يذكر البيان الرئاسي واقعة المعصرة صراحة، لكن التزامن ملفت. في الخلفية، ترددت أنباء غير مؤكدة عن حركة تنقلات داخل وزارة الداخلية قد تتم قريبًا، وربط البعض بينها وبين تداعيات حادثة المعصرة. بالتزامن، ظهر الإعلام الرسمي والمقرّب من الدولة ليل السبت ليكرر رواية أن الفيديو ملفّق تمامًا، واستضاف بعضهم خبراء أمنيين شككوا في إمكانية حدوث الاقتحام على أرض الواقع. |
الأحد 27 يوليو | بيان رسمي أقوى وتصعيد لهجة: في هذا اليوم أصدرت وزارة الداخلية بيانًا تفصيليًا نُشر عبر الإعلام الرسمي وشبكات الأخبار المقربة من الدولة، توعّدت فيه بملاحقة قانونية لكل من روج “الفيديوهات المفبركة”. البيان كرر أن جماعة الإخوان “تواصل حملاتها اليائسة لنشر الشائعات وزعزعة الاستقرار” واعتبر ربط الفيديو بموقف مصر من غزة جزءًا من حملة دعائية مغرضة للتشكيك في الدور المصري. في نفس الوقت، كانت منظمات حقوقية مصرية (مثل الشبكة المصرية لحقوق الإنسان) تعرب عن قلقها على مصير الشابين، محمّلةً وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني المسؤولية عن سلامتهما، خصوصًا بعد ورود أنباء غير مؤكدة عن اعتقالهما رسمياً إثر تسليم نفسيهما. |
سرعة الانتشار والمنصات: من الجدول أعلاه، يتضح أن الانتشار الأولى للمقاطع كان خاطفًا خلال ساعات. بدأ على منصة تيليجرام ثم اندفع بقوة إلى منصة X (تويتر سابقًا) حيث أعاد النشطاء نشر الفيديو مرفقًا بتعليقات غاضبة أو مشككة. كما وصل إلى تيك توك عبر مقاطع قصيرة يستخدمها المستخدمون لإعادة شرح ما حدث، وإلى فيسبوك عبر صفحات إخبارية وشخصية. يشير بعض التقارير إلى أن الفيديو حصد خلال يومين أكثر من 3 مليون مشاهدة تراكميًا عبر مختلف المنصات، مما يجعله من أسرع الفيديوهات المصرية انتشارًا هذا العام. على تيك توك، تم تداول المقطع مع صوت تعليق منسوب لقناة الجزيرة – مصر (ضمن محتوى إخباري هناك)، ما يشير لتناول إعلامي غير تقليدي. أما على منصة X، فقد بلغ التفاعل ذروته ليلة 25-26 يوليو، حيث تصدّر وسم #المعصرة قائمة الترند في مصر لساعات، إلى جانب وسوم مرتبطة بغزة.
طبيعة التفاعل الجماهيري: التفاعل مع الفيديوهات حمل نزعة عاطفية قوية من الجانب الشعبي. كثيرون – خاصة من الشباب المصري والعربي – احتفوا بما اعتبروه “رسالة رمزية جريئة” إلى السلطات المصرية. تعليقات عديدة وصفت الشابين بالأبطال وشبهتهما بمن “كسروا حاجز الخوف” دفاعًا عن غزة. بالمقابل، قطاع آخر من الجمهور – وبينهم موالون للحكومة ومتحفظون – عبّروا عن التشكيك والسخرية: سأل البعض “هل يعقل أن يحدث هذا فعلاً في مصر دون رد فعل فوري؟”؛ وسخر آخرون بلهجة عامية: “فين الطابق الرابع ده؟ ده القسم تلات أدوار يا جماعة!”. وشبه البعض الفيديو بأفلام الأكشن أو ألعاب الفيديو، مشيرين إلى ما رأوه ثغرات غير منطقية في تنفيذ الاقتحام (مثل عدم وجود مقاومة من باقي قوة القسم). هذا الانقسام الإلكتروني انعكس حتى في التحليلات الإعلامية لاحقًا، حيث انبرى كل فريق لتعزيز روايته عبر الأدلة الرقمية: الفريق المؤيد اعتمد على صحة الوثائق المسرّبة وبعض الأسماء الواردة فيها كدليل واقعي، بينما الفريق المشكك ركز على تناقضات كقصة “الطابق الوهمي” واحتمال كون الشباب تلقوا تسهيلات خفية للمرور، ملمحًا لنظرية مؤامرة أو فبركة.
رابعًا: تتبّع السرديّة الرقميّة – الوسوم وردود الفعل في سياق غزة
أبرز الوسوم المستخدمة: الحدث تداخلت فيه سرديتان رقميتان: واحدة تتعلق بالشأن الداخلي (#قسم_المعصرة، #احتجاز_ضابط، #الاقتحام_المزعوم، #الفيديو_المفبرك)، وأخرى تتعلق بغزة ومعبر رفح (#غزة، #افتحوا_معبر_رفح، #التجويع_في_غزة). في الساعات الأولى، انتشر وسم #قسم_المعصرة لجمع الأخبار المتعلقة بالفيديو وللنقاش حول مصداقيته. الحسابات المؤيدة للشابين استخدمت أيضًا وسومًا مثل #نصرة_غزة و#معبر_رفح لتأكيد الربط بين فعلتهم والقضية الفلسطينية، مما ساهم في رفع زخم التضامن العربي معهم. بالمقابل، الحسابات الإعلامية القريبة من الحكومة روّجت وسم #الفيديو_المفبرك في محاولة لوصم القصة بالخدعة من البداية، إلى جانب وسم #الداخلية_المصرية لنشر بيانات النفي الرسمية. لوحظ أيضًا استخدام وسوم سياسية مثل #السيسي حيث انقسم المغردون بين من قال إن “السيسي اهتزّ عرشه بهذا الاقتحام” ومن ردّ بأن “السيسي كشف كذب المؤامرة”. كما ظهر وسم ساخر #الاقتحام_المفبرك لتداول النكات حول عدم وجود طابق رابع في القسم.
سياق الترابط مع أحداث غزة: حدثت واقعة المعصرة في ظل تصاعد الغضب الشعبي عربيًا بسبب كارثة إنسانية في غزة. منذ مايو 2024، وبعد سيطرة إسرائيل على الجانب الفلسطيني من رفح، ازدادت معاناة قطاع غزة بشكل غير مسبوق. في يوليو 2025، بلغت الأزمة الغذائية ذروتها وأعلنت مصادر فلسطينية وفاة عشرات (غالبيتهم أطفال) بسبب الجوع. هذا الواقع أجّج مشاعر التضامن والغضب في مصر نفسها، خاصة مع استمرار إغلاق السلطات المصرية للمعبر لفترات طويلة (رغم نفيها ذلك). خلال الأسبوع الذي سبق فيديو الاقتحام، نظّم ناشطون مصريون في أوروبا احتجاجات أمام السفارات المصرية في دول عدة (لاهاي، لندن، باريس…) حيث قاموا “بإغلاق أبواب السفارات رمزيًا” احتجاجًا على إغلاق رفح. أبرز هؤلاء الناشطين كان الشاب المصري أنس حبيب في هولندا. لذا جاء فيديو المعصرة ليُظهر أن الغضب لم يعد خارجيًا فقط بل امتد لداخل مصر، مما ألهب مشاعر كثيرين رأوا فيه بداية “طوفان الأمة” داخليًا – في استعارة لاسم قناة تيليجرام التي نشرت المقطع. وفي هذا السياق، وصفت تعليقات عديدة ما قام به الشابان بأنه “ثورة يناير جديدة من أجل غزة”، في إشارة إلى روح الانتفاضة المصرية 2011.
خامسًا: السيناريوهات المحتملة – حقيقي أم مفبرك أم خدعة؟
في ضوء كل ما سبق من تحليل بصري وسردي ورقمي، تتبلور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لتفسير هذه الواقعة:
- السيناريو الأول – أن الفيديو يوثق حدثًا حقيقيًا بالكامل: أي أنّ الشابين نفذا بالفعل اقتحامًا محدودًا لمكتب الأمن الوطني في قسم المعصرة، واحتجزا ضابطًا أو أكثر لفترة وجيزة، وصوّرا المشهد ونشراه بأنفسهما. يدعم هذا السيناريو ما يلي: تطابق روايتهما مع المشاهد، وواقعية الوثائق المسرّبة (التي اعترفت تقارير مستقلة بصحة بعض الأسماء فيها)، إضافة إلى ظهور الشابين بوجههما الحقيقي وإعلان اسميهما (محسن مصطفى وأحمد عبد الوهاب) لاحقًا، مما يصعّب القول إنهما مجرد ممثلَين أو شخصية خيالية. كذلك الفيديو الإضافي الذي ظهر فيه أحدهما مصابًا ويؤكد امتلاكهم مسدس صوت فقط، يوحي بأن مواجهة فعلية حدثت. هذا السيناريو يتوافق أيضًا مع سياق غضب شعبي حقيقي يجعل حدوث مثل هذا الاختراق الأمني أمرًا ممكنًا، خاصة إذا استغله المنفذان بذكاء في توقيت ضعيف الحراسة. إن صحّ هذا السيناريو، فهو حادث غير مسبوق في مصر منذ 2013، يحمل رسالة سياسية شعبية للنظام، ويشكل إحراجًا أمنيًا كبيرًا – ما يفسر إصرار السلطات على نفيه وطمس معالمه بسرعة.
- السيناريو الثاني – أن الفيديو حقيقي في جزء منه لكن الرواية مبالغ فيها: بمعنى أن يكون قد حصل اختراق أو تسلل فعلي إلى مقر الأمن الوطني بالمعصرة، وربما حدث حوار وتوثيق كما رأينا، لكن دون سيطرة كاملة لمدة 5 ساعات كما زُعم. ربما الشابان دخلا بشكل اعتيادي (بحكم مراجعتهما الشهرية كونهما معتقلين سابقين مثلاً)، ثم افتعلا مشادّة وصوّرا لقطة سريعة لخدمة هدف إعلامي، ثم انتهى الأمر باستسلامهما فورًا. في هذا السيناريو، الوثائق المسرّبة قد تكون حقيقية لكن ربما تم الحصول عليها مسبقًا عبر تعاون من داخل القسم أو تصوير سريع أثناء الفوضى، وليس بالضرورة نتيجة سيطرة لساعات. كذلك احتجاز الضباط ربما لم يكن محكمًا تمامًا بل صُوّر على عجل لإظهارهم خلف باب مغلق لبضع دقائق. يدعم هذا السيناريو أن تنفيذ عملية اقتحام كاملة وتحقيق احتجاز طويل دون أي تعزيزات أمنية أمر مستبعد – إلا إن تواطأ أحد بالداخل أو كانت الثغرة الأمنية كبيرة جدًا. لذا يحتمل أن جزءًا من المشهد مُرتَّب للحصول على تأثير إعلامي أقوى (مثل إطالة مدة الاحتجاز المعلَنة، أو ادعاء تسمية “عملية الحديد 17” كأنها تنظيم كبير بينما هم فردان فقط). بهذا التصور، الفيديو غير مفبرك رقميًا لكن فيه تهويل دعائي إلى حد ما، وربما تعاون محدود من آخرين (كتسريب الأوراق مثلاً) لتحقيق غاية “الصدم الإعلامي”. وهذا لا يلغي دوافع الشابين النبيلة تجاه غزة، ولكنه يضع احتمالًا أنهما استثمرا الموقف رمزيًا أكثر من كونه عملية عسكرية فعلية.
- السيناريو الثالث – أن الفيديو خدعة مفبركة بالكامل: وفق هذا السيناريو، يكون كل ما شاهدناه مجرد تمثيلية معدّة مسبقًا. ربما صُوّر المشهد في مكان آخر مشابه (ليس قسم المعصرة الحقيقي) بترتيب من جهة معارضة في المنفى أو حتى خلايا إعلامية سرية، بهدف إحراج النظام المصري وتأجيج الغضب الشعبي. والمؤكد أن هذا ما تتبناه الرواية الرسمية المصرية حرفيًا. تدعي تلك الرواية أن عناصر أنتجت الفيديو ونسجت حوله قصة وهمية، مستغلين أشخاصًا (قد يكونون فعلاً محسن وأحمد المذكورين أو غيرهما) للتمثيل بهذا الدور، ثم ضخّموا الحدث عبر منصات تابعة لهم. في هذا السيناريو، حتى الوثائق المسرّبة إما أن تكون مزورة بالكامل أو حقيقية لكن جرى الحصول عليها بطرق اختراق إلكتروني أو تسريب قديم وأُلصقت بالحادث زورًا (وهذا ما ألمحت له الداخلية بأن الوثائق “لا علاقة لها بالواقعة”).
أي السيناريوهات نرجح؟ التقييم النهائي يتوقف على معلومات غير متاحة حاليًا للعامة. ولكن استنادًا إلى التحليل المفتوح المصادر: السيناريو الثاني (الحقيقة الجزئية مع التضخيم) يبدو الأكثر توافقًا مع مجمل الأدلة. فالواضح أن شيئًا حصل فعلًا – سواء اقتحام رمزي أو مواجهات محدودة – تدعمه المظاهر البصرية ومحتوى الوثائق، لكن من المرجح أن الشابين باغتا الأمن في لحظة ظرفية ولم يستمر احتجازهما للضباط طويلاً كما ادّعيا أو أغلاقا المكتب من الداخل. ثم جرى تهويل الحدث إعلاميًا من قبلهما لتحقيق رسالتهما (وهذا مشروع من زاوية النضال السلمي).
نجح الفيديو في إيصال صوت التضامن مع غزة من قلب مصر، ودقّ جرس إنذار بأن الاحتقان الشعبي قد بلغ مرحلة غير مسبوقة. وفي أقل التقديرات، أصبحت السلطات المصرية مدفوعة لإعادة تقييم تأمين مقارّها الحساسة ورصد الرأي العام بجدية أكبر، تحسبًا لتكرار سيناريو مماثل في المستقبل.