بالرغم من فشل العديد من بلدان الربيع العربي في تحقيق انتقال ناجح إلى النموذج الديمقراطية، والروح التي سادت في شعوب المنطقة عن استحالة التغيير، يشير التاريخ إلى أن العديد من الدول التي حققت خطوات كبيرة نحو الديمقراطية، تراجعت عنها في مراحل لاحقة.
على الرغم من التجارب السلبية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، لا يزال تأييد الانتقال إلى النموذج الديمقراطي جزءًا أساسيًا من آمال شعوب العالم العربي. فوفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة بيو، يعتقد 78% من التونسيين و74% من الليبيين و70% من المصريين و51% من اليمنيين أن الأنظمة الديمقراطية رغم عيوبها هي الخيار الأفضل.
لقد أدت ثورات عام 2011 في العالم العربي إلى ثلاثة عواقب رئيسية؛ الخوف من انهيار الدولة، تزايد الاستقطاب الاجتماعي، وتزايد أهمية المطالب الاجتماعية والاقتصادية.
في عام 2011، لم يكن المتظاهرون في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن قلقين بشأن خطر انهيار الدولة، لكن الحروب اللاحقة زادت من قوة هذا الخطاب. الأنظمة استخدمت خطاب “نحن أو الفوضى” لردع الاحتجاجات، لكن المتظاهرين لم يصدقوا ذلك في البداية، مع ذلك، فإن الفوضى الناتجة لاحقًا عن النزاعات في سوريا وليبيا واليمن جعلت هذا الخطاب أكثر تأثيرًا.
في نفس الوقت، تزايد الاستقطاب الاجتماعي منذ عام 2011، حيث كانت المجتمعات أقل انقسامًا سياسيًا ودينيًا وعرقيًا في تلك الفترة. الحوارات بين الطوائف والأيدولوجيات المختلفة كانت موجودة، لكن الوحدة التي شهدتها المجتمعات خلال هذه الثورات تلاشت فيما بعد وتفاقمت التوترات الدينية والعرقية مما ساعد الأنظمة الحاكمة على الاستفادة من هذه الانقسامات.
الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بعد الثورات
بجانب العوامل السابقة، كان هناك ارتباط واضح في عام 2011 بين التغيير السياسي، ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فبعد موجة الثورات المضادة التي شهدتها المنطقة، تفاقمت هذه المشاكل، وأصبح بعض الناس يرون أن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي كان أفضل في ظل الأنظمة القديمة.
تواجه العديد من الدول العربية تحديات اقتصادية عميقة حيث يعاني جزء كبير من السكان من الفقر وظروف معيشية صعبة، مما يساهم في تفشي مشاعر الإحباط وعدم الرضا. بالإضافة إلى ذلك، تشكل معدلات البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب، مصدر ضغط اجتماعي واقتصادي كبير، حيث تضعف فرصهم في تحقيق استقرار معيشي.
كما أن اللامساواة الاقتصادية تعد تحديًا بارزًا، إذ تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث يحصل قلة على خدمات عالية الجودة بينما تعاني الأغلبية من نقص الخدمات الأساسية مما يزيد من حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
تؤثر الأزمات الاقتصادية بشكل مباشر كذلك على الجوانب الاجتماعية، مما يزيد من تعقيد الوضع، فالتفاوت الاقتصادي يساهم في تفكيك التماسك الاجتماعي ويزيد من التوترات والنزاعات بين فئات المجتمع. إضافة إلى ذلك، تظل الحكومات غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للفئات الأكثر ضعفًا، حيث تغطي خدمات الحماية الاجتماعية أقل من 40% من السكان، مما يفاقم معاناتهم.
تحديات الثورات العربية و الضغط الدولي
تشير الدراسات إلى أن التدخلات الخارجية كان لها تأثير كبير على مجريات الثورات العربية وفي مقدمتها مصر، سواء من الدول العربية وخاصة الخليجية أو القوى الغربية مثل الولايات المتحدة وأوروبا. هذه التدخلات جاءت تحت ذرائع متعددة لكنها أثرت بشكل ملحوظ على القرارات السياسية والإجراءات التي تم اتخاذها خلال الثورة. ومن خلال الأجندات الخارجية، تم الكشف عن أن العديد من القرارات التي اتخذت كانت نتيجة لضغوط خارجية، مما أدى إلى تغييرات في المسار الذي كانت تسلكه الثورة.
أدى تدخل القوى الإقليمية إلى تعقيد الأوضاع في البلدان التي شهدت ثورات، حيث زاد من تعقيد الصراعات وأثر بشكل كبير على استقرار المنطقة. على سبيل المثال، في سوريا، أدت الحرب الأهلية إلى تدخلات متعددة من دول إقليمية ودولية، مما ساهم في تعميق الأزمة وزيادة المعاناة الإنسانية. هذه التدخلات الإقليمية جعلت الصراع السوري أكثر تعقيدًا، حيث كانت الأطراف المختلفة تدعم فصائل متعددة، مما جعل التوصل إلى حل سياسي أمرًا صعبًا.
أما التأثير الدولي، فقد كان متباينًا بشكل كبير. ففي بداية الثورات دعمت بعض الدول الغربية حركات المعارضة في البلدان المتأثرة، ولكن مع مرور الوقت تغيرت مواقف هذه الدول بناءً على مصالحها السياسية والأمنية. على سبيل المثال، بعد فترة من دعم المعارضة السورية، بدأت بعض الدول الغربية في تقليص هذا الدعم بسبب المخاوف من تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة، مما جعل موقفها أكثر تحفظًا وأدى إلى تباين في السياسات الدولية تجاه الصراع.
بجانب ذلك، تعاني النخب السياسية في العالم العربي من تحديات عدة أبرزها الاستبداد والقمع الذي يحد من قدرتهم على العمل السياسي الفعال. إضافة إلى ذلك، تعيش كثير من هذه النخب في عزلة عن المجتمع داخل أبراج عاجية، مما يجعلها بعيدة عن فهم التحديات اليومية التي تواجه المواطنين.
كما فشلت هذه النخب في التعبير عن احتياجات الجماهير وتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية المطلوبة، مما زاد من تفاقم الأزمات. ونتيجة لغياب النخب السياسية المؤثرة، تفاقمت الأوضاع مع عدم توفر بدائل قوية للنظم السلطوية القائمة، مما أعاق التغيير السياسي المطلوب وزاد من الفجوة بين هموم المواطنين ومتطلبات النخب، الأمر الذي أدى إلى انعدام الثقة بين الطرفين.
مرت 14 عامًا منذ اندلاع ثورات الربيع العربي التي بدأت كحراك شعبي يطالب بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية في عدد من الدول العربية، ورغم أن العديد من هذه الثورات انتهى بمآلات مختلفة تراوحت بين الإصلاح النسبي والفوضى العارمة، إلا أن جذور المطالب الشعبية ما زالت قائمة في ظل استمرار الظلم والفساد والقمع في عدة دول، فيما يأتي نجاح الثورة السورية بعد كل ما شهدته من توترات على مدار سنين، باعثًا من جديد فكرة إمكانية نجاح الربيع العربي بعد ما شهد من إخفاقات كبيرة.
المصادر:
https://carnegieendowment.org/posts/2011/11/alrbya-alarby-mn-mnzwr-aalmy-astntajat-mn-thwlat-dymqratyh-fy-anhaa-akhra-mn-alaalm?lang=ar
https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/monographs/MG1100/MG1192z1/RAND_MG1192z1.pdf
https://afak.univ-tam.dz/wp-content/uploads/2019/07/afak-mag-020-art-001.pdf
https://www.assecaa.org/images/WorkPapers/democracy/Procedural-standards-for-building-democracies-ar.docx
https://www.chathamhouse.org/2021/01/arab-spring-10-years
https://www.france24.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/20201217-%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%82-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%B1-%D8%B9%D8%B4%D8%B1-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%86%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%87
https://www.bbc.com/arabic/interactivity-55523791