تيكتوك وتدوير الأموال المشبوهة في مصر وثغرات قانونية تُغذّي الجريمة الرقمية

مع التطور المتسارع للتكنولوجيا، شهدت عمليات غسيل الأموال تحولاً نوعياً، حيث أضحت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي بيئة مثالية لإخفاء مصادر الأموال غير المشروعة، وقد استغل غاسلو الأموال في العصر الرقمي سبلاً مبتكرة لتحقيق ذلك، من العملات المشفرة و التبرعات الوهمية، وصولاً إلى الألعاب الإلكترونية وغيرها من الطرق.

وقد برز تطبيق “تيكتوك” كأحد أبرز هذه المنصات المستغلة عالمياً، وهو ما تجلى بوضوح في مصر من خلال التحقيقات الأخيرة التي كشفت عن تورط عدد من المؤثرين (“التيكتوكرز”) في قضايا غسيل أموال.

هذه الظاهرة المتنامية برزت في ظل فجوة تشريعية واضحة في القانون المصري، سمحت باستغلال المنصات الرقمية لغسل الأموال على نطاق واسع. لكن طريقة تعامل الدولة معها أثارت جدلاً واسعًا؛ إذ يرى حقوقيون أن السلطات مزجت بين مكافحة الجرائم المالية وبين تشديد الرقابة على الفضاء الرقمي، مستهدفةً في كثير من الحالات صانعي المحتوى من الفئات الأفقر، في ما يشبه حملة “ذعر أخلاقي” بدلاً من تبني إصلاحات تشريعية ورقابية متوازنة تعالج أصل المشكلة دون التضييق على حرية التعبير.

يستكشف هذا التقرير تفاصيل استغلال هذه المنصات، مركزاً على آليات توظيف “تيكتوك” في غسيل الأموال، ويسلط الضوء على الثغرات القانونية في مصر التي تعيق التصدي الفعال لهذه الجرائم الرقمية المتزايدة.

حالات موثقة في مصر

في صيف 2025 تفاعل الرأي العام المصري مع قضية التيكتوكر «مريم أيمن» المشهورة باسم «سوزي الأردنية»، التي ألقي القبض عليها في أغسطس بتهمة تداول “محتوى لا يليق بالقيم العائلية” وغسل ملايين الجنيهات من الأموال المشبوهة.

فقد أفادت وزارة الداخلية بأنها “قامت بغسل الأموال المتحصلة من نشاطها غير المشروع في إنشاء صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي”، عبر محاولة إخفاء مصادرها، مثل شراء وحدات سكنية بقيمة تصل إلى نحو 15 مليون جنيه، هذه الحادثة تكشف عن نمط أوسع من استغلال منصة تيكتوك لغسل الأموال.

أظهرت التحقيقات تورط عشرات من مشاهير التيكتوك في قضايا مالية غير مشروعة. فوفق ما نقلته وسائل الإعلام، كشف تحقيق أمني أن معظم مشاهير منصة تيكتوك الذين تم القبض عليهم مؤخراً متورطون في غسيل أموال وإتجار بالمخدرات.

وقد أصدرت المحاكم قرارات بتجميد أموال بعضهم. فعلى سبيل المثال، جمدت محكمة جنح القاهرة أموال محمد شاكر في قضية غسل أموال، وفي قضية أخرى، اعترف مؤثر باسم محمد خالد المشهور بـ(مداهم) بغسل نحو 65 مليون جنيه عبر نشاطه الإلكتروني غير المشروع، واستخدم تلك الأموال في شراء عقارات فخمة وسيارات وتأسيس شركات وهمية لإضفاء صبغة قانونية عليها. وأمرت محكمة جنايات القاهرة بحجز أموال المؤثرة سوزي الأردنية وأفراد عائلتها بعد التأكد من حيازتهم أصولًا مشبوهة.

من جهة أخرى، تورد تقارير مصرية رسمية أن إجمالي مبالغ غسيل الأموال المرتبطة بهذه القضايا كبير. فقد أفاد مصدر أمني لقناة “مينا” (MENA) بأن حجم غسيل الأموال في قضايا مشاهير التيكتوك تجاوز الربع مليار جنيه في نحو ستة قضايا فقط.

وأكد أن التحقيقات أثبتت تهم غسل أموال ضد عدد من صناع المحتوى المضبوطين، بينهم ستة تجاوز المبلغ عبرهم 250 مليون جنية وأوضح المصدر أن المتهمين استغلّوا منصات التواصل لنشر فيديوهات خادشة للقيم بهدف زيادة المشاهدات وجني أرباح غير مشروعة، ثم حاولوا إخفاء مصادر الأموال بإضفاء طابع شرعي عليها، مثل تأسيس شركات وهمية وشراء عقارات وأراضٍ وسيارات

آليات تقنية لغسل الأموال عبر تيكتوك

غسيل الأموال هو عملية إخفاء المصدر غير المشروع للأموال، مما يجعلها تبدو وكأنها جاءت من مصادر مشروعة، الهدف الرئيسي هو إدماج الأموال المشبوهة في النظام المالي الشرعي حتى يمكن استخدامها بحرية دون إثارة الشبهات.

في العصر الرقمي، تطورت طرق غسيل الأموال لتشمل الفضاء الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي التي يمكن أن تتم عبرها بعدة طرق. أكثرها استخداماً هي العملات الرقمية (Cryptocurrencies) إذ يقوم غاسلو الأموال بشراء العملات الرقمية باستخدام الأموال غير المشروعة، ثم يقومون بتحويلها بين محافظ مختلفة أو تبادلها بعملات أخرى لإخفاء مسارها الأصلي، ثم بيعها للحصول على أموال نظيفة.

أما ما يجعل تيكتوك ممراً مغرياً لغسيل الأموال هو بنيته الرقمية لاحتضان العملات الافتراضية ونظام الهدايا. فيخطو المستخدم أولاً إلى شراء “عملات تيكتوك” الافتراضية من داخل التطبيق (تكلفتها تقريبا 0.01 دولار أمريكي لكل عملة).

ثم يستخدم تلك العملات في شراء هدايا افتراضية يرسلها خلال بث مباشر إلى حساب مُحدَّد للمؤثر. وتحظى الهدايا بتأثير على الشاشة أمام المشاهدين، ولكنها تتحول تلقائياً إلى “ألماس” داخل الحساب، بعد تجميع كمية كافية من الألماس، يمكن لصاحب الحساب سحبه نقداً عبر باي بال، حيث يمنح تيكتوك قيمة 0.005 دولار (نصف سنت) لكل ألماسة.

هذه الميزة تُظهر أيقونة زر “إرسال هدية” في واجهة تطبيق تيكتوك، لكن عملية الدفع في خفاياها تشوبها ثغرات مالية خطيرة، فالبنوك تلاحظ فقط رصيد المستخدم لدى تيكتوك والسحب النهائي إلى حسابه، بينما لا يعرف وسطاء الدفع (مثل باي بال) مصدر تلك العملات أو هوية المرسل.

بمعنى آخر، إذا كان المال مستخدماً لشراء العملات الافتراضية من أموال مسروقة أو خبيثة، فإن هذه الدورة الرقمية تمحو أثارها وتمنح صبغة شرعية فقط عند سحبها، تضاف إلى ذلك حيل مثل استخدام حسابات وهمية وبوتات لزيادة التبرعات الرقميّة.

فقد رصدت التحقيقات الأمريكية حالات لحسابات ذات متابعين قليلين تعرض بثاً أسود وكسبت تبرعات هائلة بالرغم من عدم تقديم أي محتوى، فقد اعترف موظفو تيكتوك في الولايات المتحدة أنهم “حددوا أنماطاً كبيرة من جريمة غسيل أموال على منصة TikTok Live” ، وأن المنصة كانت تعاني من غياب التحقق من هوية المستخدمين (KYC) مما ترك مئات الآلاف من الحسابات عالية المخاطر دون رقابة.

المصدر: وثائق ولاية يوتا – Division of Consumer Protection (ملف «Unsealed Redaction Highlights» في الدعوى Div. of Consumer Protection v. TikTok Inc., Third District Court).

باختصار، تتلخص العملية في تحويل الأموال المسروقة أو القذرة عبر مسارات رقمية: بطاقة ائتمان مسروقة أو عملة مشفرة → شراء عملات تيكتوك داخل التطبيق → إرسالها كهدايا افتراضية خلال لايف → دخولها حساب المؤثر كألماس → سحبها نقداً عبر باي بال إلى حساب بنكي مشروع.

هذا النمط يتكرر أيضا في مصر، إذ كشف التيكتوكر نادر أحمد، الذي يتابعه حوالي مليوني شخص على تيكتوك، أنه تلقى عروضًا من حسابات وأشخاص مجهولين للانضمام إلى عمليات غسيل أموال عبر التطبيق. وقد طلبوا منه أن يكون جزءًا من هذه العمليات، حيث سيرسلون له هدايا خلال البث المباشر مقابل حصوله على نسبة من الأموال المحولة.

وأوضح نادر أن الغريب في الأمر هو اختفاء هذه الحسابات وحذفها بالكامل من تيكتوك بعد أيام قليلة من عدم رده عليها. وأشار إلى أن نسبة كبيرة من الأموال المرسلة تأتي من بطاقات بنكية مسروقة ومهكرة، تم بيعها في مزادات مشبوهة على “الدارك ويب”. وبيّن أن حجم الأموال والنسبة التي يحصل عليها مقدم المحتوى تعتمد على شهرته وعدد مشاهديه، فكلما زادت شعبيته، حصل على نسبة أكبر من الأموال وفرصة أكبر لإبعاد الشبهات.

فجوة تشريعية تُعرقل مكافحة الجرائم الرقمية

تواجه مصر تحديات تشريعية في مجاراة هذه الظاهرة، فقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (175 لسنة 2018) يعرّف جريمة التعدي على “قيم الأسرة” و”الآداب العامة” بشكل فضفاض، وقد أصبح النص “التعدي على أيّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري” أداة رئيسية لتجريم حرية التعبير عبر الإنترنت، وهو ما انتقدته منظمات حقوقية لعدم وضوحه وتناقضه مع حرية اللفظ.

ويلاحظ خلو القانون من أي ذكر صريح للعملات الافتراضية أو المنصات الرقمية كأدوات مالية. بالتالي، يمكن للمتهمين استغلال غموض النصوص لإثارة القضايا الوهمية أو توجيه الاتهامات الأخلاقية دون مراقبة فعلية لمصادر الأموال.

في المقابل، حرصت جهات تشريعية عالمياً على تضييق مثل هذه الثغرات، فالإمارات على سبيل المثال، أصدرت في 2025 “قرار رقم 10” ينظم ما يُسمّى بالمؤثرين الماليين (Finfluencers) على مواقع التواصل، حيث فرضت أنظمة تصدّق المحتوى المالي وتقيّد توزيع النصائح الاستثمارية عبر الإنترنت.

أما في الاتحاد الأوروبي، فمعظم تشريعات مكافحة الجريمة الإلكترونية تنصّ على تعزيز تراسل بيانات التحويلات وتوثيق هوية المشاركين في المعاملات الرقمية لضمان التتبع.

يبيّن هذا التقرير أن غسيل الأموال عبر تيكتوك يمثل تحديًا حقيقيًا للأمن الاقتصادي والرقمي، ويستدعي تطوير أدوات رقابية وتشريعية أكثر فاعلية لضمان عدم تحوّل المنصات الرقمية إلى بوابات لتدوير الأموال غير المشروعة.

مع ذلك، فإن أي استجابة لهذه الظاهرة ينبغي أن تراعي التوازن بين مكافحة الجريمة وحماية الفضاء الرقمي وحقوق صانعي المحتوى، بحيث لا تتحول الإجراءات إلى عقاب جماعي أو وسيلة للحد من حرية التعبير.

المصادر:

How Money Laundering Schemes Changed in the Digital Age
اعترافات مشاهير «تيك توك» تكشف المستور عن «شبكة غسيل الأموال»
«مرتب وبونص وشرط أساسي».. تفاصيل العالم السري لسماسرة غسل الأموال على التيك توك
Türkiye takes action against TikTok money laundering
Utah Division of Consumer Protection vs. TikTok Inc.
التسول الإلكتروني والتيك توك: أوجه القصور والمعالجة في مصر
Utah officials accuse TikTok of profiting from exploitation in newly unredacted complaint
TikTok Lawsuit Highlights Potential Money Laundering Risks
مصدر أمنى لــ أ ش أ: حجم غسيل الأموال فى بعض قضايا صناع المحتوى تعدى ربع مليار جنيه
غسيل أموال واتجار بالمخدرات.. تهم تلاحق مشاهير تيك توك بمصر

18 thoughts on “تيكتوك وتدوير الأموال المشبوهة في مصر وثغرات قانونية تُغذّي الجريمة الرقمية

اترك رداً على jonitogel login alternatif إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *