مصر تبيع أراضيها الزراعية بينما تستورد غذاءها

خلال شهر أغسطس الحالي، تناقلت الصحف المصرية خبرًا هاماً؛ حيث أن شركة “إن آر تي سي فود القابضة” الإماراتية استحوذت بالكامل على “مزارع الهاشمية” في وادي النطرون، إحدى أكبر المزارع الخاصة في مصر، تمتد على مساحة تقترب من عشرة آلاف فدان وتضم ملايين الأشجار المثمرة، والتي لم تكن مجرد صفقة تجارية عادية، بل إنذار جديد عن مسار خطير باتت تسلكه الدولة في إدارة واحد من أكثر الملفات حساسية؛ ألا وهو الأمن الغذائي المصري.

لقمة العيش المستوردة

تعتمد مصر اليوم على استيراد ما يقارب 40% من احتياجاتها الغذائية الأساسية. القمح، الذرة، والزيوت النباتية تأتي من الخارج، بينما يقف أكثر من 100 مليون مواطن تحت رحمة الأسواق العالمية وتقلباتها. وفقاً للبنك الدولي، جاءت مصر في 2024/2025 ضمن الدول الأعلى عالمياً في معدلات التضخم الغذائي، حيث ارتفعت الأسعار بوتيرة لم يشهدها المصريون منذ عقود.

في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، تصف أم محمد (45 عامًا) معاناتها اليومية:

“العيش بقى غالي، والزيت والسكر كل يوم سعر جديد.المرتب مش بيكفي، وإحنا بنقلل من الأكل علشان نصرف على التعليم والكهربا.”

قصتها ليست استثناءً. فالأرقام الرسمية تكشف أن نحو 29.8% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، فيما يفتقر 7% إلى الأمن الغذائي الكافي. وفقًا لدراسة حديثة صادرة عن البنك الدولي حول الأمن الغذائي ومعدلات التضخم للعام 2024/2025، جاءت مصر ضمن قائمة الدول الأعلى عالميًا في معدلات التضخم الغذائي، وهو ما يعكس أزمة معقدة تتجاوز مجرد نقص المحاصيل.

هذه المعدلات القياسية للتضخم تأتي في بلد يعاني مواطنوه أصلاً من ضعف شديد في مستويات الدخل، ما يجعل القدرة الشرائية في تراجع مستمر، ويضاعف من معاناة الأسر المصرية في تأمين احتياجاتها اليومية الأساسية.

استثمارات أجنبية… على حساب الفلاح المصري

رغم هذه الأوضاع، لا تتجه الدولة إلى زيادة الإنتاج المحلي أو دعم الفلاحين، بل تفتح أبواب الأراضي الزراعية أمام الاستثمارات الخليجية. منظمة GRAIN الإسبانية رصدت على سبيل المثال أن الإمارات وحدها باتت تدير 788 ألف فدان داخل مصر، أي ما يقارب 40% مما استصلحته الدولة خلال العقد الأخير.

“الظاهرة”، إحدى أكبر الشركات الإماراتية، تدير ربع مليون هكتار في توشكى وشرق العوينات والصالحية. تنتج الشركة القمح والذرة والفواكه بكميات هائلة. المفارقة أن الحكومة المصرية نفسها اقترضت عام 2023 مئة مليون دولار من صندوق أبوظبي للتنمية لشراء القمح من “الظاهرة”. بمعنى آخر، الدولة تبيع أرضها، ثم تستدين لشراء محاصيلها من مستثمر أجنبي يزرع على تلك الأرض.

شركة “جنان” الإماراتية ركزت على الزيتون والتمر، فيما توسعت “IHC” في العنب والمانجو الموجهين للتصدير. أما على مستوى الصناعات الغذائية، فقد استحوذت شركة “أغذية” الإماراتية على 70% من “أبو عوف”، ودخلت مجموعة الغرير في صناعة السكر، لتكتمل منظومة النفوذ: من الأرض إلى المصنع، وصولاً إلى رفوف المتاجر مثل كارفور وكبريات المتاجر في مصر.

السعودية على الخط

ليست الإمارات وحدها من تمددت في الزراعة المصرية. شركة الراجحي السعودية استحوذت على نحو 100 ألف فدان في مشروع توشكى، فيما تدير شركات سعودية أخرى عشرات الآلاف من الأفدنة في شرق العوينات والنوبارية. معظم هذه الاستثمارات موجهة لتصدير القمح والشعير والأعلاف والتي تطلب عادة إلى كميات كبيرة من المياه، التي تعاني فيها مصر من أزمة حادة، لا لتلبية احتياجات السوق المصري، بل السوق السعودي.

كما دخلت قطر باستثمارات زراعية تجاوزت 7.5 مليار دولار، بينما ضخت الكويت 5.3 مليار دولار في 2025، وركزت البحرين على مشروعات الاستزراع السمكي.

بين السيادة الغذائية والمال السريع

في حين يزداد اعتماد مصر على استيراد غذائها، تتوسع الحكومات الخليجية في السيطرة على الأراضي الزراعية المصرية. الحكومة تبرر هذه الصفقات بأنها تجذب العملة الصعبة وتدعم الاقتصاد.

ألا أن الصورة معاكسة لما تروجه الحكومة المصرية. فمن بيع الأراضي الزراعية إلى استيراد القمح بالديون، ومن ارتفاع الأسعار إلى تراجع دخل المواطن، يبدو أن مصر تتحرك في اتجاه واحد، وهو فقدان السيطرة على غذائها. وبينما يرى المسؤولون أن الاستثمارات الخليجية فرصة لتعويض نقص الموارد، يرى المواطنون والفلاحون أنها تكريس لاعتماد دائم على الخارج في أهم ما يحتاجه الإنسان، وهو لقمة العيش.

المصادر:

Saudi Al Rajhi Co. to pump $135mn in Egypt’s Toshka until 2020
From land to logistics: UAE’s growing power in the global food system
Agrifood policies and challenges of the agrifood system in Egypt
Egypt – Agricultural Sectors
Food security

15 thoughts on “مصر تبيع أراضيها الزراعية بينما تستورد غذاءها

اترك رداً على xâm hại, ấu dâm trẻ em إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *